19 سبتمبر 2025
التعريفات الجمركية هي ضرائب تفرضها الدول على السلع المستوردة. في أبريل من هذا العام، فرضت الولايات المتحدة أعلى معدل للتعريفات منذ فترة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي (أنظر الرسم البياني الأول هنا وتعرفة سموت-هاولي) على وارداتها من أكثر من 190 دولة وإقليم، بهدف تقليل العجز في ميزانها التجاري. فما الآثار النظرية المحتملة لهذه الحرب التجارية على الاقتصاد الكلي الأمريكي والعالمي؟ لا يهدف هذا المقال إلى تقديم تنبؤات أو إجابات قاطعة، بل إلى استكشاف الآليات التي تؤثر من خلالها التعريفات الجمركية على الاقتصاد الكلي.
كيف يستجيب التضخم لارتفاع مفاجئ في التعريفات الجمركية؟
يؤدي ارتفاع التعريفات الجمركية إلى حدوث صدمة تضخمية لمرة واحدة في الأسعار. ينبع مصدر هذا التضخم من تأثير هذه الرسوم على أسعار السلع الوسيطة، وهي السلع التي تُستخدم في إنتاج سلع أخرى. على سبيل المثال، ستؤدي زيادة التعريفة على الصلب والحديد إلى دفع منتجي السيارات والسلع المعتمدة عليهما إلى رفع أسعارهم النهائية التي يدفعها المستهلك في سوق السيارات. يعتمد مدى ارتفاع الأسعار على قدرة هذه الشركات على "تمرير" عبء التعريفة إلى المستهلك النهائي، وهي قدرة تتوقف بدورها على مرونة الطلب والعرض في سوق كل سلعة. باختصار، الأثر الكلي يمثل صدمة اقتصادية تدفع بتكاليف الإنتاج للارتفاع ومن ثم ارتفاع أسعار المستهلك.
الأثر المتوقع على الميزان التجاري والنمو الاقتصادي
يُحسب الميزان التجاري من خلال طرح قيمة الواردات من قيمة الصادرات. يرى صانع السياسة المؤيد للتعريفات أن هذه الإجراءات ستخفض قيمة الواردات، مما يؤدي آلياً إلى تحسن الميزان التجاري وبالتالي دعم النمو الاقتصادي. ويهدف فرض التعريفات على نطاق واسع من الدول إلى التخفيف من أثر الإحلال حيث قد تلجأ الشركات الأمريكية إلى الاستيراد من دولة أخرى غير خاضعة للتعريفات بدلاً من خفض الواردات.
إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة! تعتمد هذه الحجة على افتراض جريء مفاده أن الدول الأخرى لن ترد بإجراءات انتقامية مثل رفع التعريفات على الصادرات الأمريكية أو فرض قيود تجارية أخرى، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى زيادة العجز التجاري للولايات المتحدة، مما يعمق المشكلة التي سعت السياسة إلى حلها. وتشير التطورات الحالية إلى أن بعض الشركاء التجاريين الرئيسيين، مثل الصين وكندا، قد باشروا بالفعل بردود فعل انتقامية من شأنها خفض الناتج الاقتصادي الأمريكي عبر انخفاض الطلب على الصادرات الأمريكية. علاوة على ذلك، فإن التفاوت في معدلات التعريفة بين الدول والسلع يعيد إحياء احتمال حدوث أثر الإحلال.
في المحصلة، وفي إطار الاقتصاد الكلي، تُصنَّف الآثار الرئيسية على التضخم والنمو في خانة صدمات جانب العرض الكلي (Aggregate Supply Shocks) التي تؤدي على المدى القصير إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الإنتاج بسبب ارتفاع تكاليفه، وتدفع الاقتصاد إلى حالة من الركود.
هل هناك آثار بعيدة المدى للحمائية التجاري؟
أولا، عادةً ما تستفيد صناعات محلية محدودة من السياسات التجارية الحمائية، حيث تكتسب قوة سوقية كانت مقيدة بفعل المنافسة الدولية. فعلى سبيل المثال، تمثل حماية صناعة الصلب في الولايات المتحدة منفعة كبيرة لمالكي المصانع المحلية الذين يتحررون من المنافسة مع منتجين مثل الصين، مما يمكنهم من اكتساب قدرة أكبر على التحكم في الأسعار ورفع هامش السعر فوق تكاليفها (Price Markups). ورغم أن هذه التحولات تعزز أرباح مصنعي الصلب، فإن المُنتجين والمستهلكين الذين يُعد الصلب بالنسبة لهم مدخلاً إنتاجياً أساسياً وسلعة وسيطة هم من يدفع الجزء الأكبر من فاتورة هذه التكاليف الإضافية.
ثانيا، من منظور النظرية الاقتصادية، تكمن أهمية التجارة الدولية في تعزيزها لكفاءة الإنتاج العالمي. فحين تتنافس دولتان في إنتاج سلعة ما، تتحقق الكفاءة الاقتصادية من خلال إنتاجها في الدولة التي تمتلك ميزة نسبية (Comparative Advantage)، أي القدرة على الإنتاج بتكلفة نسبية أقل. تمنع هذه الكفاءة إهدار الموارد النادرة وتوجه الموارد المُوفّرة نحو إنتاج سلع أخرى تتميز بها الدولة. يؤدي التدخل الثقيل عبر السياسات الجمركية إلى اختلال أنماط التجارة هذه، خاصة في ظل تعقيد سلاسل الإمداد العالمية الحديثة من حيث القطاعات والدول (أنظر الرسم البياني 2 هنا)، مما يتسبب في انخفاض كفاءة الإنتاج ويؤدي في النهاية إلى نمو اقتصادي أقل على المدى البعيد.
الموجة ثانية
لا تقتصر آثار الصدمات الاقتصادية بشكل عام، والتجارية بشكل خاص، على النطاق المباشر لها، بل تمتد إلى تفاعلات متزامنة تتخطى نطاق الصدمة الأولية. فالتداعيات السلبية على الناتج الاقتصادي من جانب صدمات العرض الكلي قد تؤدي إلى اختلالات موازية في جانب الطلب الكلي، خاصة إذا أدت التعريفات الجمركية إلى حدوث ركود اقتصادي خارج الولايات المتحدة.
يعتمد حجم الأثر الاقتصادي خارج الولايات المتحدة على درجة اعتماد كل دولة على التجارة الدولية في ناتجها المحلي الإجمالي، وقد يمتد التأثير السلبي إلى دول ليست شركاء تجاريين مباشرين للولايات المتحدة، وذلك بسبب التشابك المعقد في الشبكات التجارية العالمية (أنظر الرسم البياني 2 هنا). ففي حال أدت التعريفات الجمركية إلى انخفاض الطلب على صادرات الدول الأخرى، قد ينتج عن ذلك ركود اقتصادي في تلك الدول، مما يقلص بدوره طلبها على الصادرات الأمريكية، وهو ما يعمق التأثير السلبي على النمو الاقتصادي الأمريكي. وتزداد هذه الآلية تعقيداً في حال قيام هذه الدول بردود فعل انتقامية ضد الولايات المتحدة.
جدير بالذكر أن التعريفات الجمركية صاحبتها درجة عالية من الضبابية المتعمدة حول معاييرها، بما في ذلك الدول المستهدفة وقيمتها وفترتها الزمنية وإمكانية التفاوض عليها. تؤدي هذه البيئة من عدم اليقين (Uncertainty) إلى عرقلة قدرة الشركات على تخطيط التكاليف وتقييم كفاءة سلاسل الإمداد وقياس جدوى المشاريع، مما يثبط الطلب الكلي على الاستثمار في الولايات المتحدة على الأقل حتى تتكشف المعالم الكاملة للسياسة الجديدة.
كما أن للتفاعلات المذكورة أعلاه آثاراً جانبية إضافية يصعب التنبؤ بمداها الكامل. فقد يؤدي التفاوت في معدلات التعريفات الجمركية إلى إعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية، لصالح دول تتمتع بتعريفات نسبية أقل مقارنة بمنافسيها (كما في حالة التنافس بين الصين والهند وفيتنام). ومن ناحية أخرى، قد تساهم هذه الصدمات، على المدى البعيد، في إضعاف مكانة وجاذبية الدولار كعملة تداول دولية وكعملة احتياط مفضلة عالمياً، وكذلك إلى إضعاف قواعد النظام التجاري الدولي الحر نسبيا.
في المقال القادم، سأبني على هذه الأفكار لاستكشاف كيفية تعامل البنوك المركزية مع هذه الآثار والمفاضلات الصعبة التي تواجهها عند تحديد السياسات النقدية ومعدلات الفائدة.
للمهتمين، بعض الروابط أعلاه تحمل قراءات إضافية. أيضا هذه بعض القراءات والمصادر المقترحة:
Talking With Hélène Rey: The international role of the dollar and more
A multi-sector assessment of the macroeconomic effects of tariffs
*ملاحظة: هذا المقال لأغراض تعليمية فقط، وهو ليس موجهاً لأغراض الاستثمار أو التنبؤ بالسوق، ولا يُعتبر بأي حال من الأحوال مشورة مالية أو استثمارية.