21 أكتوبر 2025
ناقش المقال السابق الآثار الاقتصادية للحرب التجارية الأمريكية (رابط المقال). في هذا المقال المبسط، سنحلل كيف يدير البنك المركزي الأمريكي (الاحتياطي الفيدرالي)، بوصفه صانع السياسة النقدية، آثار هذه الحرب التجارية. يهدف المقال إلى تقديم إطار مبسط يساعد على فهم السياق الذي يتخذ فيه الاحتياطي الفيدرالي قراراته.
أساسيات عمل السياسة النقدية
تسمى سياسة البنك المركزي في إدارة الاقتصاد الكلي بالسياسة النقدية، وتهدف هذه السياسة إلى ضبط الطلب الكلي على السلع والخدمات في الاقتصاد بشكل رئيسي من خلال تغيير معدلات الفائدة. الهدف المعلن من هذه السياسة هو تحقيق أمرين: استقرار مستوى الأسعار، وأقصى معدل للتوظيف. رفع معدل الفائدة يؤدي نظريًا إلى انخفاض الناتج الاقتصادي والتضخم عن طريق زيادة تكلفة الاقتراض، مما يخفض الإنفاق والاستثمار، بينما يؤدي خفضه إلى تشجيع الإنفاق وتعزيز الطلب الكلي.
صدمات الطلب: خارطة واضحة
يفعّل البنك المركزي سياسته النقدية استجابةً لتقلبات الإنتاج ومعدلات التضخم خلال الدورة الاقتصادية. هذه التقلبات تأخذ مسارا مختلفا على حسب مصدر الصدمة الاقتصادية التي كما رأينا في المقال السابق أنها إما في جانب الطلب أو في جانب العرض الكليين.
في حالة صدمات الطلب الكلي، يتجه النشاط الاقتصادي والتضخم في نفس الاتجاه. على سبيل المثال، في الركود الناتج من انخفاض الطلب الكلي، سينخفض الناتج الاقتصادي ومعه المعدل العام للأسعار. هنا تكون خيارات السياسة النقدية واضحة ومباشرة، إذ يقوم البنك المركزي بخفض معدل الفائدة لتحفيز الاقتصاد ودعم التوظيف دون قلق من تأجيج التضخم، كما حصل في الأزمة المالية العالمية 2008 (Divine coincidence) .
صدمات العرض: ركود، تضخم، ومقايضة صعبة
تكمن المقايضة الحقيقية (trade-off) في حالة صدمات العرض التي تؤدي إلى الركود والتضخم في الوقت ذاته - ظاهرة تُعرف بـ"الركود التضخمي" (stagflation). على سبيل المثال، ارتفاع التعرفات الجمركية يرفع سعر السلع الوسيطة التي بدورها تؤدي لارتفاع تكلفة التصنيع وبالتالي الأسعار النهائية - مع انخفاض الناتج الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة . تزداد هذه المقايضة تعقيدا عندما تجر الحرب التجارية مشكلة أخرى في جانب الطلب الكلي كنتيجة لانتقام الشركاء التجاريين الذي يؤدي لتباطئ الصادرات الأمريكية وأيضا الضبابية وعدم اليقين بالتعرفات الحالية والمستقبلية مما يعمق الركود الاقتصادي. اشتعال التضخم مع ركود الناتج الاقتصادي يضع البنك المركزي أمام مقايضة صعبة: خفض معدل الفائدة لدعم الطلب الكلي في مواجهة الركود على حساب تأجيج التضخم، أم رفع معدل الفائدة لكبح جماح التضخم على حساب تعميق الركود؟
توقعات التضخم وعوامل أخرى
يولي الاحتياطي الفيدرالي اهتمامًا ليس فقط للتضخم الفعلي، بل أيضًا للتوقعات المستقبلية بشأنه. فوفقًا للنظرية الاقتصادية، فإن ارتفاع "توقعات" التضخم المستقبلي قد يدفع الاقتصاد نحو تضخم فعلي نتيجة زيادة المطالبات بأجور أعلى، الأمر الذي يرفع تكلفة الإنتاج والأسعار النهائية للسلع.
عادةً ما تكون صدمات العرض الكلي مؤقتة، حيث ترتفع الأسعار لمرة واحدة ثم يهدأ التضخم بعدها، ما يدفع صانع السياسة النقدية إلى إعطاء وزن أقل لتأثير هذه الصدمات (look-through). لكن إذا طال أمد هذه الصدمات أو تفاقمت، يتحول الارتفاع المؤقت إلى اضطراب في توقعات الشركات والمستهلكين للتضخم المستقبلي. خروج هذه التوقعات عن السيطرة قد يدخل الاقتصاد في دوامة من ارتفاع الأجور، مما يؤدي في النهاية إلى تضخم أعلى. بذلك تصبح العملية كأنها نبوءة تحقق نفسها بنفسها: إذا توقعت تضخمًا أعلى فسيكون التضخم فعليًا أعلى، والعكس صحيح.
يفضل البنك المركزي أن تكون هذه التوقعات مستقرة على المدى المتوسط أو البعيد حول معدل التضخم المستهدف عند 2%، وألا تتأثر بتقلبات معدل التضخم على المدى القصير. وتعتمد هذه التوقعات على عدة أمور، من بينها مصداقية البنك المركزي في تحقيق التضخم المستهدف، الأمر الذي يرتبط بشكل وثيق باستقلاليته، وهي التي تواجه مؤخرًا هجمات وضغوطًا سياسية. من جانب آخر، حتى صدمات العرض المؤقتة قد تشكل خطرًا على هذه التوقعات إذا استمر أثرها لفترة طويلة نسبيًا، خاصة في اقتصاد خرج للتو من فترة تضخم عنيد وطويل بعد جائحة كوفيد-19.
السياسة النقدية في 2025
حتى اليوم، يدير الاحتياطي الفيدرالي سياسته في 2025 بحذر، لكنه يميل باتجاه التيسير لتفادي الركود. العوامل المذكورة أعلاه أدت إلى تباين في آراء أعضاء اللجنة التي تقرر السياسة النقدية في الاحتياطي الفيدرالي؛ فبعضهم يرى ضرورة التحرك بسرعة لدعم سوق العمل، بينما يحذر آخرون من أن التيسير المفرط يفتح الباب لعودة التضخم بقوة. في سبتمبر 2025، خفض الفيدرالي الأمريكي الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى نطاق 4.00% - 4.25% مع إشارات لمزيد من التخفيض في 2025، ورهن مسار معدل الفائدة على معطيات سوق العمل والتضخم وتطورات الحرب التجارية.
بشكل مختصر، المستقبل مرهون بورود المزيد من البيانات: إذا تدهورت سوق العمل أكثر دون ارتفاعات مفاجئة في بيانات التضخم، سيزداد ميل الفيدرالي نحو خفض الفائدة. الموقف أكثر صعوبة إذا أشارت البيانات لارتفاع التضخم أو فُقدت الثقة في قدرة والتزام الفيدرالي بضبطه.
للمهتمين، بعض الروابط أعلاه تحمل قراءات إضافية. أيضا هذه بعض القراءات والمصادر المقترحة:
A multi-sector assessment of the macroeconomic effects of tariffs
شاهد الرسم 2 (dot plot) لتوقعات أعضاء الـ FOMC لمعدلات الفائدة المستقبلية
*ملاحظة: هذا المقال لأغراض تعليمية فقط، وهو ليس موجهاً لأغراض الاستثمار أو التنبؤ بالسوق، ولا يُعتبر بأي حال من الأحوال مشورة مالية أو استثمارية.